كتب الكاتب سليمان دغش للمحيط العربي خاطرة بعنوان الليل

 الليـــــــــــــــــــــــل.../ سليمان دغش


الليْلُ لي وحدي ولا أحدٌ يُشاركُني بهِ  

فالليلُ عِندي لا يُشابهُ ليلَ غَيريَ،

 كادَ يُشبِهُني وأشبِهُهُ، لكُلٍّ ليلُهُ الليْليُّ مِثلهُ

 ليسَ هذا الليلُ ليلاً واحِداً أبداً كما يَبدو بِظاهِرِهِ لنا 

هُوَ واحِدٌ للنائمينَ على حَصيرَتِهِ القديمَةِ 

لا يَرونَ بِهِ سِوى تَختٍ قدِ اعتادوا عَليهِ 

ويَحلمونَ بأنَّ ليْلاً آخَراً آتٍ ليوقِظَهُمْ مِنَ النَّومِ الطَّويلِ 

لكَيْ يناموا مرّةً أخرى ويَحلمونَ بجَنَّةٍ 

عَرضَ السّماءِ وَلَمْ يُحدِّدْ طولَها أحَدٌ، ولا أحَدٌ 

رآها ذاتَ يومٍ، ذاتَ وهمٍ في المَجازِ، فَمَنْ يَعي 

كُنهَ المَجازِ ليَفهَمَ الرؤيا ويَهبِطَ بالمِظَلَّةِ من 

سماءِ الوهمِ، لا يَتَحَقَّقُ الحُلُمُ الجميلُ بِحُلْمِهِ الليْليِّ 

فاحْلمْ ما تشاءُ وكُنْ على ثِقَةٍ بأنَّكَ أنتَ حُلْمكَ

 إنْ تُراوِدْهُ تَجَلّى فيكَ مَزْهُواً بِذاتِكَ فيهِ، لنْ

 يكفيكَ حُلْمُكَ وَحدُهُ إلّا إذا صَدَّقْتَهُ، صادَقْتُهُ وصَدَقْتُهُ 

ليَصيرَ رؤيا في الوجودِ وغايَةً كُبرى 

ألمْ تَكُنِ الحياةُ بِدايَةً حُلُماً ورُؤيا ثُمَّ صارَتْ

 فِكرَةً كُنا بِها فغَدَتْ لنا  

الليلُ لي وَحْدي ولا أَحَدٌ سِوايَ معي، 

لي غُرفَتي، كُتُبي ومَكتَبتي، قَلمي وأوراقي ومَحْبَرَتي 

وزُجاجَةُ الخَمْرِ الفَرَنسِيِّ المُعتٌّقِ فَوْقَ طاوِلَتي،

 كأسانِ فارِغَتانِ تنتظرانِ رائحةَ النبيذِ ومنْ

 سيرتشفُ النبيذ فَتَنعما بالقُبْلَةِ الأولى على شَفَتيْهما، 

فالكأسُ تَبْقى أوَّلَ النُّدماءِ تَحتَرِفُ التّأمُّلَ بالنَّدامى

 حولَها، مهما سَكَبتَ بِها النَّبيذَ ولو مَلأتَ جمامَها 

ظَلَّتْ كَعادَتِها على ذاتِ الأناقَةِ والحُضورِ تَجَلِّياً 

مثلَ العَروسِ على انتِظارِ زَفافِها،

 والكأسُ تَرْتَشِفُ النَّبيذَ عَنِ الشِّفاهِ 

بنَكهَتَيْنِ وقُبْلَتَينِ، تَئِنُّ بَيْنَهُما على ظَمَئٍ، 

فأيَّةُ نَهكَةٍ أشهى؟

 فَمَنْ مَنَحَ النَّدامى جانِحَ الهَذَيانٍ في ليلِ الكرى

 ليحلّقوا بينَ الكواكِبِ مسّها سُهْدُ النُّعاسِ فأوشكَتْ 

تَغفو على أفُقٍ يُهيّئُ نَفسَهُ للشَّمسِ،

 تمحو الأمسَ، مُعلنَةً نهاراً آخَراً، ما الشَّمسُ

 إلّا ساعَة الكونِ الدَّقيقَة في مواعيدِ الحَياةِ، تُؤَرشِفُ الأيامَ 

في رُزنامَةِ التاريخِ، ماضيهِ وحاصِرِه

 وما سَيَليهِ في غَدِنا الرَّهينِ لساعَةٍ أزَلِيَّةٍ 

لا شيءَ يَحكُمُ نَبضَها الزَّمَنِيَّ أو يَثني عَقارِبَها 

عَنِ الدَّوَرانِ ذاتَ الاتجاهِ فلا تُغَيِّرُهُ ولا أحَدٌ تَمَكَّنَ

 أنْ يُعيدَهُ للوَراءِ وَلو لثانِيَةٍ مَضَتْ

والليْلُ يَمضي مِثلَما يَمضي النّهارُ على عَقارِب ساعَةِ الشَّمسِ

 الدَّقيقَةِ لا تَوَقُّفَ عنْدهُ مَهما تَحايَلَ باختِبائهِ 

في عَباءَتهِ، كأنَّ الليلَ غافَلَنا ومَرَّ على رؤوسِ أصابِعِ القَدَمينِ 

كاللصِّ الخَبيثِ فما انتَبَهنا، إنَّ هذا الليلَ 

يَسرِقُ عُمرَنا، فإذا غَفَونا ضاعَ نِصفُ العُمرِ نَوماً، 

لمْ نَعِشْهُ كما نُحِبُّ، وإنْ سَهِرنا الليلَ كُلَّهُ 

لنْ يطولَ العُمرُ يوماً واحِداً لكِنَّنا في الليْلِ

 نَختَبِرُ الحَياةَ بِنَظرةٍ أخرى مُغايِرَةٍ ونَكْتَشِفُ 

الذي يُخفيهِ خَلفَ وشاحِ عُتْمَتِهِ الشَّفيفِ، 

ففي الغُموضِ إثارةٌ وإشارَةٌ وبِشارَةٌ لمَنِ اهتدى، 

والليلُ مثلُ البحرِ يُخفي خَزنةَ الأسرارِ خلفَ حِجابِهِ 

فإذا أردْتَ ولوجَ خَزنَتِهِ، خزانَتِهِ ومَتحَفِهِ الكبيرَ 

عَليكَ أنْ تَجِدَ المَفاتيحِ العَصِيَّةَ فيكَ، لا في الليْلِ،

 ثَمَّةَ شيفرَةٌ في النّفسِ حاولْ أنْ تَفُكَّ رُموزَها 

لتزيلَ عَنها رُقعَةَ الظُّلُماتِ، تَتَضِحُ الرؤى

 فترى الحَقيقَةَ في تَجَلّيها البَهِيِّ فلا وُضوحَ لرؤيَةٍ

 إلّا بمِنظارِ الرؤى

الليْلُ لي وحدي كما أهوى، كأنَّ الليلَ أوشَكَ أن 

يُغادِرني فأسألُ هَلْ يَنامُ الليْلُ أينَ، متى وكَيفَ 

لرُبَّما مثلي وحيدٌ لا نديمَ لهُ سِوايَ، ولا نديمَ سواهُ لي

فإلامَ يَترُكني إذاً وحدي وَيَرحَلُ؟ لمْ يُوَدّعني

 فقلتُ أنا أوَدّعُهُ، لَمَحْتُ الكأسَ فارِغَةً فمَنْ سَكَبَ

 النبيذَ بِها وسامَرَني سواهُ، سَكبتُ في الكأسينِ 

آخِرَ ما تَبَقّى في الزُجاجَةِ مِنْ نَبيذٍ فاخرٍ، 

أشعَلتُ سيجاري الشَّهيَّ بنَكهَةٍ كوبِيَّةٍ ورَشَفتُ 

آخِرَ شَفّةٍ في الكأسِ

نَخْبَ الشَّمس


( سليمان دغش )

فلسطين



تعليقات