قصة قصيرة بعنوان عند قبرها للأديب محمد سليط
قصة قصيرة بعنوان
"عند قبرها وحديث الأحبة":
قد تكون جزء من سيرة ذاتية
بقلم المفكر و القاص العربي
الشاعر والناقد الاردني
أعتذر إن كان في هذا القصة بعض الألم
د محمد سليط
كان يجلس القرفصاء أمام قبرها، يمسح الغبار العالق على شاهد الرخام الأبيض وكأنه يداعب وجنتيها. مضت عشر سنوات عجاف منذ رحيلها، لكن ألوان ذكراها كانت لا تزال زاهية في قلبه، كلوحة فنان ماهر عصية على البهتان. كان "أمين" شاعراً مرهف الحس، كلماته تتراقص على شفاهه كفراشات ملونة، لكن منذ رحيل "سعاد"، جفّ ينبوع الشعر في داخله، وتحولت قوافيه إلى أنين مكتوم.
اليوم، كما كل يوم جمعة، أتى أمين إلى هنا، إلى هذا الركن الهادئ من المقبرة حيث ترقد حبيبته. الشمس كانت ترسل خيوطها الذهبية تخترق أغصان السرو، وتلقي بظلالها الطويلة على الشواهد. الصمت كان يخيم على المكان، لا يقطعه سوى تغريد عصفور بعيد وهمسات خفيفة لحركة المارة.
أخرج أمين من جيبه دفترًا قديماً، صفحاته بدت مهترئة من كثرة اللمس. فتحه على صفحة بيضاء، وتنهد بعمق. كان يعتاد أن يقرأ عليها آخر قصائده، يبثها أشواقه وأخباره. اليوم، كان الأمر مختلفاً.
يا أم البنين
وجهك الجميل
منذ غادرني
ماذا تبقى مني
من كلي أقلي
أراك في كل زاوية
في البيت
على أوراق الشجر
رسم لؤلؤي على الحجر
تزف ذكرياتك إلي الشمس
يليها القمر
وأحن لمجمل حكايتنا
تنطق باسمك بلابل حديقتنا
دلة قهوتك على حالها
على الرف وحيدة
أصابها الحزن والضجر
فنجان قهوتنا المشترك
رائحة عطر البيت
فطورنا الصباحي
دواوين الشعر
الأشجار التي زرعتها
بيديك الرقيقتين
الزهر في الربيع
على الشجر
لهذا الحب والوفاء
مازال شوقاً ينهمر
المطر
"سعاد يا حبيبتي..." همس بصوت خافت، كأنه يخشى أن يزعج سكونها الأبدي. "اشتقت إليكِ كثيراً. الأيام تمر ثقيلة، وكل شيء يذكرني بكِ."
توقف قليلاً، وعيناه تجولان على النقوش المحفورة على الشاهد: "سعاد... النور الذي أضاء حياتي". ابتسم بحزن، وتذكر كيف كان يصفها دائماً بنور حياته، بالشمس التي تبدد عتمة أيامه.
"تتذكرين قصيدتي الأولى في عينيكِ؟" أكمل حديثه، وكأنه يخاطبها حقاً. "تلك التي شبهتُ سوادهما بليل ساحر لا أرغب في شروق شمسه؟"
تجولت يده على الرخام البارد، وشعر بوخز في عينيه. "لم أكتب قصيدة واحدة منذ رحيلكِ يا سعاد لكني اليوم كتبت. الكلمات خانتني، والمشاعر تلبدت كغيوم مثقلة بالمطر، لكنها لا تمطر."
صمت مرة أخرى، ثم أخرج من جيبه وردة حمراء ذابلة، كان قد احتفظ بها منذ آخر ذكرى جمعتهما. وضعها بحذر على القبر.
"اليوم ذكرى لقائنا الأول يا حبيبتي. أتذكرين تلك حديقة جامعة دمشق المزدحمة بالناس، وكيف تعثرتِ وكدتِ تسقطين، فامسكتُ بيدكِ؟" ابتسم ابتسامة باهتة. "في تلك اللحظة، شعرتُ بأنني أمسكتُ بقدري كله."
نظر حوله، وكأنه ينتظر رداً. الريح الخفيفة حركت أغصان الأشجار، فبدا صوتها كهمس عابر.
"أخبرنني يا حبيبتي، هل ترينني من مكانكِ؟ هل تشعرين بوجودي هنا؟" سأل بصوت يائس. "أفتقد حديثكِ، ضحكتكِ، حتى عتابكِ كان عذباً على قلبي."
فجأة، شعر بنسمة هواء باردة تلامس وجهه، وكأنها لمسة خفيفة. رفع رأسه، ونظر إلى السماء الزرقاء الصافية.
"ربما... ربما شعرتِ بي" همس، وشيء من السكينة بدأ يتسرب إلى قلبه المثقل.
بقي أمين جالساً لفترة طويلة، يسترجع ذكرياته مع سعاد، يتحدث إليها بصوت منخفض، وكأنها ما زالت بجانبه، تستمع إليه بكل حب واهتمام. وعندما بدأت الشمس تميل نحو الغروب، وقف ببطء، وقبل شاهد قبرها برقة.
"إلى اللقاء يا حبيبتي. سآتي مرة أخرى قريباً. سأحمل لكِ معي كلمات ربما استطاعت أن تعبر عن بعض ما يجيش في صدري."
ثم استدار أمين، ورحل بخطوات ثقيلة، تاركاً خلفه وردة ذابلة وقبراً يحتضن أغلى ذكرياته، لكنه كان يحمل في قلبه حديثاً دافئاً مع حبيبته، حديثاً لم تسمعه الآذان، لكنه وصل حتماً إلى الروح.
عاد أمين إلى منزله الصغير، الذي كان يوماً يضج بضحكات سعاد و أبنائه وهمساتها، ليجده الآن صامتاً كصمت قبرها. تناول كوباً من الشاي الساخن وجلس على كرسيه العتيق بجانب النافذة، يتأمل النجوم المتلألئة في سماء الليل. كانت كل نجمة تذكره بذكرى، وكل وميض يوقظ في قلبه حنيناً دافئاً.
في تلك الليلة، وبينما كان أمين غارقاً في بحر الذكريات، شعر برغبة ملحة في الكتابة. أمسك بقلمه ودفتره القديم، وبدأت الكلمات تتدفق من روحه المتعبة، وكأن ينبوع الشعر الذي ظن أنه جفّ قد تفجر من جديد. لم تكن الكلمات مجرد رثاء أو حزن، بل كانت قصيدة حب عميقة، تحتفي بجمال روح حبيبته، بنورها الذي لا يزال يشع في حياته رغم الغياب.
هنا،
حيث تنتهي الدروب
وتتسع الذاكرة.
أجلس يا سعاد،
على حافة صمتك الأبدي
أستعيد خطوات أيامنا
ضحكات تلون المكان
همسات تذوب في هواء غريب.
الأرض باردة، أعرف
لكن قلبي يا حبيبة
يشتعل بذكرى دفئك.
أتيت اليوم
أحمل معي
بقايا فرح باهت
وأسئلة لا تجد لها جواباً
في هذا السكون المطبق.
أتذكرين الشجرة هناك؟
كم جلسنا تحت ظلها
نراقب الغيوم
نحلم بغدٍ
كنت أنتِ فيه كل الغد.
أتذكرين أغنيتك المفضلة؟
تهمس بها الريح الآن
كأنها عزاء خفي
أو ربما...
هي صوتكِ أنتِ
يأتيني عبر الأثير.
لا تقولي وداعاً يا عمري
فأنتِ هنا
في نبضي الخافت
في دمعة تسيل
في كلمة أحبك
تتردد بين جوانحي.
هذا القبر
ليس إلا علامة
أما أنتِ
فأوسع من هذا التراب
أعمق من هذا الصمت.
ستبقين حكايتي
التي لا تنتهي
قصيدتي
التي لا تُنسى.
سأعود يا سعاد
كلما اشتاق القلب
لحديث الأحبة
عند قبركِ...
حيث يسكن النور.
ويطل علي من نافذتين
كتب عن عينيها اللتين كانتا نافذتين إلى قلبه، عن صوتها الذي كان موسيقى تسري في أوصاله، عن لمسة يدها التي كانت تمنحه الأمان والدفء. كتب عن الأيام الخوالي، عن الليالي التي قضوها سوياً تحت ضوء القمر، عن الأحلام التي نسجوها وتلاشت مع رحيلها.
لكن في ثنايا الحزن، تسللت خيوط من الأمل. كتب كيف أن حبها زرع في قلبه بذوراً لا تزال تنمو، كيف أن ذكراها ألهمته ليصبح إنساناً أفضل، كيف أن نورها سيظل يضيء طريقه حتى آخر العمر.
عندما انتهى من كتابة القصيدة، شعر أمين براحة غريبة، وكأن عبئاً ثقيلاً قد انزاح عن صدره. قرأ القصيدة بصوت خافت، وكأنه يهمس بها في أذن سعاد. شعر بأنها تستمع إليه، بأن روحها تحوم حوله، تحتضن كلماته بحب أبدي.
في صباح اليوم التالي، حمل أمين القصيدة معه إلى المقبرة. وقف أمام قبرها، وقرأ عليها كلماته الجديدة بصوت مرتجف. كانت الشمس ترسل أشعتها الذهبية على شاهد القبر، وكأنها تبارك كلماته.
بعد أن انتهى، وضع القصيدة المطوية بعناية على القبر، بجانب الوردة الذابلة. شعر بأن حلقة الوصل بينهما قد تجددت، وأن الشعر الذي كان يجمعهما في الحياة قد عاد ليجمعهما بعد الممات.
منذ ذلك اليوم، عاد الشعر إلى حياة أمين. لم تعد قصائده مجرد صدى للحزن، بل أصبحت احتفاءً بالحب الخالد، وتخليداً لذكرى سعاد. كان يأتي كل جمعة إلى قبرها، يحمل معه قصيدة جديدة، يقرأها عليها، ثم يتركها وديعة على قبرها، كرسائل حب أبدية.حتى أنه حفر قبراً جوار قبرها،
أوصى أبنائه وصيته الأخيرة ، هذا قبري بمشيئة الله، أريد أن أدفن هاهنا بجوارها.
أصبح قبر سعاد مكاناً مقدساً لأمين، مساحة يلتقي فيها العاشق بمعشوقته عبر أثير الكلمات ودفء الذكريات. لم يعد القبر نهاية العلاقة، بل أصبح محراباً للحب الأبدي، وشاهداً على أن المشاعر الصادقة أقوى من الفناء، وأن الحب الحقيقي لا يموت، بل يتجدد ويتوهج في كل ذكرى، وفي كل كلمة تخرج من قلب عاشق وفيّ. وهكذا، استمر حديث الأحبة، وإن كان صمت المقبرة، لكن صداه كان يتردد في قلب الشاعر، وفي كل قصيدة يكتبها لملكة روحه الراقدة تحت التراب.
أذكر حقوق الملكية الفكرية محفوظة
تعليقات
إرسال تعليق