كتب للمحيط العربي للشعر الأديب ربيع دهام حكاية اليتيم

 ( اليتيم / ربيع دهام )


إسمي سنجوق. وأرجوكم لا تسألوني لماذا.

أنا نفسي لا أعرف. 

قد أتيت إلى هذه الدنيا، أو هذه الفاجعة، طفلاً غبياً، طاهراً مدللاً ،مثل كل أطفال العالم. 

لكن كيف كنت لأدري أن إسمي، وبخلاف كل أطفال الأرضِ، سيكون سنجوق؟

حسناً. أبي الذي ترك أمي قبل ولادتي بأشهر عديدة، لا أعرفه. 

حتى بالصور.

ولما كبرتُ قليلاً، رأيتهم يجلسون حولي.

 بسحناتهم التي لا تعنيني. وملفاتهم التي لا تغنيني. 

فلشوها أمامي كما تفلش الشمس نورها، 

أو يوزع الليل عتمته على جحيم الأرض، وحاولوا بكل منطق إقناعي. 

رجال غرباء قالوا لي أن أبي في الأخير رجلٌ. 

والرجال طيورٌ بإمكانها أن تزقزق على الغصن الذي تراه مناسباً. 

هكذا أفهمني المجتمع من حولي. 

وهكذا قرأت أيضاً بنفسي في كتب القانون التي أسنّته وكتبته و

وزّعته أدمغة وأيادٍ ذكوريّة. 

ألمُهم. وبلا طول سيرة، ترك ذاك الطير أمي. وتركني أنا إبنه، 

في عشِّ التشرّد والتشرذم، وراح يبحث له عن عشٍّ آخر.

"في النهاية هو رجلٌ. والرجال مخلوقات من حقها الظفر بالأعشاش التي

 تريد".

هاجر أبي. سافر مثل طيور أيلول. 

أمي، قبل الطلاق، كان إسمها "جيهان".

وكانت تُعرف أيضاً بـ "أم سنجوق"، للأسف. 

ولكنها بعد الطلاقِ، صاروا ينادونها "المُطلّقة". 

حتى النساء صرن يُنادينّها "مطلّقة".

صارت تُعرف بتلك الصفة "الشنيعة". 

ذلك اللقب "البائس". "العار" . بحسب المجتمع طبعاً.

أما أبي، وباعتباره ذكر ابن ذكر، فقد كان له الحق،

وبشريعة الغاب التي صار إسمها قانون، والذي كتبته الذكور، 

كان له الحق، والسطلة، والقوة بالإحتفاظ بإسمه كاملاً. 

"سليم فرج الله عبد المجيد العتريسي"... زوج "المطلقة" السابق.

أما هي، المطلّقة، أي أمي، ولن أخبىء عليكم، فإني لا أعرفها.

 لكونها ماتت قبل أن يناهز عمري السنتين.

نعم. تستطيعون أن تستنتجوا من سير الأحداث أنني يتيمٌ. 

طيرٌ وفد إلى هذه الدنيا بعد مغامرة غير محسوبة من شخصين. 

طيرٌ جاء على جنح مصيبتين. 

فهل أنا حزينٌ؟ أم أن قصتي حزينة؟ 

أم أن الدنيا التي أتيت إليها حزينة؟

لا أعرف.

 لكني أعرف أنّ مَن صدره مِن حزنٍ تـنهشُ كلماته الأنفاس.

وها أنا ذا أمامكم. أجدني أكتب إليكم ولا أعرف ماذا أفعل؟

أو ماذا أسرد؟ أو ماذا أقول؟

ليستْ بنيّتي أن أشهر معلقّة حزنٍ أمامكم، وأنثرها تحت ضوء الشموعْ، 

وأرثي نفسي وأبكيها.

لا. أنا أقوى من ذلك بكثير. 

بل أنا قاسٍ مثل جدار. متينٌ مثل فولاذ. جبّارٌ كغيمةٍ تجلس على عرش السماء، وتدندل على الدنيا قدميها.

هكذا قالوا لي. هكذا أخبروني. هكذا أوهموني. أو بالأحرى، 

بتلك الكلمات العفنة خدّروني. 

وأنا، على العكس مِما بدوتُ ، كنتُ أحتاج لمن ينزع عن قلبي نبضاته

الرطبة. يمسح خلجاته الصدأة المبتلة بدموع الأحلام المالحة.

كنتُ أحتاج لمن يقتلع عن عيوني طحالب الحزن التي فيها.

كنتُ أحتاج لدولاب بجنزير حديدي، يكسّر طبقات الجليد المتراكمة 

في ذاتي. والتي كانت، ومازالت تسدّ طريقي إلى السعادة. أو حتى وهمها.

ماذا أحكي وماذا أفعل؟

 أنا الذي خسرت أمي وأبي قبل الأوان.

أنا الذي مللتُ برودة الوسائد، وحلمت بدفء الأحضان.

نعم. خسرتهما وما بقي لي في هذه الدنيا إلا إسماً أورثوني إياه. 

جرحٌ من خمسة أحرف نارية.

كائنٌ ينادونه "سنجوق".

أدخلني عمّي، بعد وفاة أمي بسنتين، في دار أيتام.

بكيتُ حين أفشى لي الخبر. 

تمسّكتُ به وغمرته. شدّدت على عنقه وعلى خدِّه. 

قبّلته، وددتُ، وأنا أقبّله، لو قتلته. 

قلتُ له: " عمّي لا تتركني".

وما بكى عمّي. وما اهتزّ. وما انتصب شعر يده من القشعريرة.

بل وضع كفّيه حول وجنتي الغارقتين بالدمع، وطمأنني :

 "ستكون سعيد جداً هناك. ستتعرّف على أصدقاء جدد. 

وستلعب بالكثير من الألعاب".

وضعتُ رأسي على كتفه ورحت أبكي. 

وضاعت دموعي هباء.

وبعد يومين، وصلتُ دارَ اليتم خائفاً مذعوراً، لا أعرف فيها أيٍّ كان. 

وخلفي وقف عمّي.

عمّي الذي كان نور الدنيا في بوحِ عيوني. رمقته بعينيّّ ورحتُ أبكي.

أنتحب أنا الطفل، لفراقه، ولوحدتي المتربصة بي. 

عمّي الذي كان بمثابة أمي وأبي. 

بل كان هو أمي وأبي.

ومثل أمي وأبي، تركني على قاطع حريق. 

دفعتي بيديه إلى الأمام وقال : " تقدّم يا سنجوق".

تقدمتُ.

وهناك، في مدخل القاعة، رأيت دميةً مركونةً على طاولة. 

اقتربتُ منها بشغف الأطفال.

حسبتها هدية مفاجئة من عمّي إليّ.

لكن قبل أن تلامسها أصابعي، زجرني رجلٌ ضخمٌ، أطل من عليائه، صائحاً 

بصوته الجهوري: 

"يا ولد. ممنوع اللمس!".

شبكتُ يدي وراء ظهري. ركنتُ رأسي بين ضلوعي. زممتُ شفتيّ وكتفيّ 

وتراجعتُ.

هربتُ أستنجد بعمّي. 

لكن عمّي كان قد رحل.

غاب. اختفى. سلّمني إلى التشرّد واختبأ وسط بيته الكبير. 

حشرتُ ناظري في الرخام تحتي.

 كوّرتُ حزني وخيبتي واستدرتُ ومشيتُ.

مثل المحكومين بالسجن المؤبد مشيتُ.

أدخلوني مكان المنامة.

وهناك، في تلك الغرفة التي لن أنساها،  

عرّفوني على أصدقائي الجدد:

السرير الذي لا يحضن، 

والشباك الذي لا يفتح، 

واللحاف الذي لا يدفىء،

والوسادة التي لا ولن تبعد عني أصوات الحرمان.

كلهم شاركوني اليتم الذي سيلازمني من طفولتي حتى يومي هذا. 

أولهم فادي. فادي الذي كاد أن يصبح صديقي، فكان نزيل السرير الذي على يميني. 

هذا قبل أن يأتي رجلٌ مجهول، أكرهه جداً، ويستله مني.

والثاني إنعام. 

إنعام الذي ترك الميتم بعد سنتين من دخولي إليه، فكان نزيل السرير الذي على يساري.

أما جورج الذي لم أكن أطيقه، فكان أمامي.

وعبدو النحيل جداً كان إلى يمين جورج.

والأخير أحمد ،الذي لم يفارق أبداً عالمه الخاص، فكان على السرير الذي 

في آخر الغرفة. 

هؤلاء: فادي، إنعام، جورج، عبدو، أحمد، كانوا نزلاء اليُتم والوحدة.

كلهم في الغرفة معي. وكلهم كانوا يحملون أسماء طبيعية.

وحده الذي لم يكن إسمه طبيعياً هو أنا.

 ذلك الكائن الغريب. العجيب الكئيب. إبن "المطلّقة"،

 الذي إسمه ...سنجوق.


( يُتبع )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتب الأديب هاشمي محمد ملاكو للمحيط العربي قصيدة بعنوان كيف أنساه؟