كتب الأديب ماهر اللطيف قصة الشيخ الغريب للمحيط العربي للشعر والأدب

 "الشيخ الغريب"


فجأة، تسمرت في مكاني وأنا أحدق النظر في ذلك الشيخ المسن متسخ الملبس وممزقه، باليه وقديمه، صاحب الذقن الأبيض الطويل الذي بدأ في الاسوداد من كثرة الوسخ والإهمال، ذو الشعر الأبيض (في معظمه) والأسود الطويل الذي تغزوه بعض الحشرات والاوساخ كبقايا أوراق الشجر والغبار ودونهما، متسخ الوجه والعينين الشاحبتين...

نعم،بقيت في مكاني أتفحص الشخص وألمح كل تفاصيله ومكوناته وعيوني تذرف الدم بدل الدمع، وجسدي يرتعد وقد اقشعر َوتملكه زلزال عنيف وقوي عنف وقوة لم أشهدهما من قبل. كيف لا وأنا أمام هذا "الهرم" الذي طالما بحثت عنه في كل مكان عساني أفيه حقه واجازيه عما فعله معي لكني لم أفلح لا أنا ولا من كلفتهم بذلك، إذ ذاب كالملح في الماء، وها هو يقف أمامي من جديد ويعيد فيا ذكريات لم ولن تمحى من عقلي وقلبي إلى الممات، ذكريات يوم اقترب مني في مأتم صديقي "محرز" الذي وافته المنية ولم يتجاوز عقده الثاني إثر نوبة قلبية قوية أصابته بغتة حرمته من الحياة وعجلت به إلى الحياة البرزخية في انتظار يوم الحشر، فجلس الشيخ بجانبي بعد أن ألقى السلام وهو ينظر أرضا ويشير الي بيده وهو يقول بصوت مسموع :

- أ مازلت تتذكرني بني؟

- (متفاجئا ومحدق النظر فيه) نعم، فأنت "الشيخ الغريب" الذي يقطن البيت القصديري الوحيد بحيّنا

- (مبتسما ابتسامة خفيفة وهو يربت على فخذي بلين) لا علينا فيما قلته بني، دعني أذكرك بحادثة تذكرتها اليوم وصدمتني صدمة كبرى

- (وقد استقمت في جلستي ودقات قلبي تتضاعف وجسدي يرتعد) إن شاء الله خيرا

- (وهو يشير الي بالصمت) ذات يوم، كنت جالسا أمام كوخي حين مرت فتاة جميلة، رشيقة القوام وممتلئة الجسد، أنيقة الملبس والمظهر، فبقيت أتبعها بنظري دون قصد أو غاية بما أني عجوز أعزب اضربت عن مخالطة ومعاشرة أية أنثى منذ صغري، منذ أن خانت امي أبي السكير الزاني بدوره وقتلها وهي حبلى بأختي فتشتت العائلة واضمحلت وأودعت في دار أيتام أين تولى مربوها تربيتي وتنشئتي إلى أن اشتد عودي وصرت قادرا على التعويل على نفسي فاشتغلت وواصلت دراستي إلى أن تحصلت على شهادة التدريس وشرعت في ذلك إلى سن التقاعد دون الاهتمام بأية أنثى، فلم أعلم سبب اهتمامي بتلك الفتاة إلى أن مررت انت ومحرز من أمامي واستهزأتما بي وقهقهتما عاليا قبل أن يقول لي مرافقك "الشيب والعيب أيها المعتوه، ساق في البر وأخرى في القبر وأنت تكاد تنقض على الفتاة انقضاض الأسد على فريسته، تب إلى ربك واذكره واعبده خيرا لك مما تقوم به

- (مقاطعا وقد استرجعت المشهد كانه حاضر آني) فاغتظت وصحت في وجوهنا باطشا" أولا نقول الرجل للبشر لأن الساق للحيوان، وثانيا الأعمار بيد الله ولا تعلم من منا سيحضر جنازة غيره، وثالثا لا تهمني لا هي ولا انت يا هذا

_ (مقاطعا وقد انهمرت الدموع مدرارا من عينيه) ثم رفعت كفي يديا إلى السماء ودعوت" اللهم اني غلبت فانتصر، اللهم فوضت أمري إليك، حسبي الله ونعم الوكيل في من ظلمني" (ثم سكت ليستعين بمنديل يجفف به عينيه وأنفه الذي كان في حالة وهن وعلة شأنه شأن مالكه)، فهربتما وأنا أحاول البحث عن بعض الحصى لأرميكما بها.

- (مبستسما ابتسامة مصطنعة وقد بدأ الخوف يمتلكني) وفعلا نلت مني حيث اصطدمت حصاة بكعب رجلي اليمنى وبقيت أياما لا أقدر على المشي

_ (وهو يعيد لمس فخذي بلين) وبقيتما تهربان بسرعة كلما رأيتماني وشرعت في الدعاء على محرز وتوعدي لكما

- (مقاطعا وقد مللت من رتابة هذا الحديث وذكرياته السيئة) مادخل تلك الحادثة بموت محرز ووجودنا في مأتمه (وبدأ الشيطان يوسوس لي ويشككني في موت صديقي وعلاقة هذا "المعتوه" بذلك)؟

- (باكيا بكاء الثكالى) أعتقد أن الله قد استجاب لدعائي وعجل بموته لأحضر جنازته، أنا الذي قال عني ساق في البر وأخرى في القبر،

- (مصدوما وقد جف ريقي وشعرت بقشعريرة كبيرة تجتاز كامل بدني) بسم الله الرحمن الرحيم (واستقمت واقفا لأهرب حين امسكني وأجبرني على الجلوس)

- تجلد بني وانصت الي، لم ادع عليك بل دعوت لك وطلبت من الله ان يوفقك ويعطيك ما ترجوه عاجلا ام آجلا...

وبقينا حينها نتجاذب أطراف الحديث حتى حان موعد إقامة جنازة صديقي ودفنه لاحقا بمقبرة القرية.

ولم ار الشيخ بعدها إلا نادرا فكان يدعو لي علنا ويلح في ذلك رغم عدم اكتراثي به واحتقاري له. فاعتدت ذلك الموقف إلى أن اصررت على تكراره كلما سنحت الفرصة لي بذلك.

وذات يوم مررت عمدا ليدعو لي فلم أجده، وكررت المرور يوما بعد يوم ولم اعثر على الشيخ الذي لا أحد علم بما حدث له وقتها، فبحثت عنه في كل مكان وكذلك بعض الجيران إلى أن اعتقدنا أنه توفي في مكان ما ولم يتعرف إليه أحد بما أنه وحيد لا يعرف له قريب ولا صديق.

وفي الاثناء،نجحت في عملي وجازاني الله خيرا إلى أن بت عينا من أعيان المدينة وثري من اثريائها، أعمل بجد وكد ليلا نهارا وأنا أحمد الله وأشكره وأرجع ذلك إلى جانب مجهوداتي وقدراتي ورضاء والديا والله وإلى دعاء ذلك الشيخ المفقود الذي اختفى فجأة دون سابق اعلام...

وها هو أمامي الآن بشحمه ودمه، فتقدمت منه وجلست القرفصاء أمامه وأنا أنظر إليه بانتباه والدموع تذرف من عيني تأسفاعلى حال مخاطبي ومظهره الذي يبعث على الرحمة والشفقة، وقلت له ولم ينتبه لي ولحضوري أو كلامي "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل مازلت تتذكرني أبتاه؟"، لكنه لم يكلف نفسه حتى النظر الي رغم محاولة جلب انتباهه مرارا وتكرارا، فعلمت حينها انه "ميت حي" جسد هامد على وجه الأرض، روح بلا حياة...

وقدكتب 


حاولت اعانته ليستقيم ويتحدث معي لكنه لم يتحرك ولم يعرني اي اهتمام وبقي" محنطا في مكانه" متكئا على حائط مبنى حكومي وسط المدينة أمام مرأى ومسمع المارة الذين كانوا يطلبون له الشفاء، مما جعلني أحمله (وبعض عملتي) إلى أقرب مستشفى أين خضع للكشوفات والفحوصات المدققة التي اثبتت مرضه بالزهايمر وكثير من الامراض المزمنة كالقلب وضيق التنفس وغيرهما، فبات الاحتفاظ به هناك أمرا لا مفر منه، وبقيت أعوده باستمرار إلى أن حل أجله ذات يوم وحضرت جنازته كما حضرت جنازة محرز ولا أعلم من سيحضر جنازتي غدا...

-----------------------------------------------------------------------------بقلم:ماهر اللطيف (🇹🇳 تونس)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتب الأديب هاشمي محمد ملاكو للمحيط العربي قصيدة بعنوان كيف أنساه؟